بقعة ضوء
وترجل فارس الصحراء عبدالله بن مبارك البوعينين
| 2012-12-04 -
من قال إن فداحة فقْد سابق تؤمن وتكسب مناعة ضد ألم لاحق، لا ألم يُؤمّن ويقي من ألم.. لا يهوّن على النفس سوى إيمانها العميق بالله وبحكمه وبقدره وبكرمه في التعويض عن أحزاننا وآلامنا ومصابنا الجلل.
لا كلمات تأتي.. لا تعبير يتدفق.. جفّ نبع الكلمات.. ما زالت النفس في فجوة اللا استيعاب.. كم تُبديه الصور حين نطالعها موجوداً وحقيقياً ماثلاً أمامنا.. كم تخبرنا الغيوم ورشات المطر بوجوده.. لوهلة يتبادر للذهن أنه موجود في (البر)، حيث عشقه الأزلي، العشق الذي أشربنا إياه قطرة قطرة.. وأنه سيعود ويدخل من باب المنزل بعد قليل.
كلماته الأولى.. حروفه الأولى.. في لقائنا الأول كانت «إن شاء الله تكونين ممن يحبون البر».. يا الله.. كم اختزلت عبارته الأولى تلك حياته كاملة.. لا أذكر ردي حينها ولكن يقينا.. في ذلك الوقت لم أكن ممن يعشقون الصحراء، رغم أنها منبع الشعر والشعراء والمشاعر.
بعد ذلك الحفل العائلي والكلمات الأولى مضت بنا الحياة والمقادير بعيداً عن الصحراء، رغم عدم انقطاعه هو عنها ومحاولته جري إليها أكثر وأكثر.
حنوناً كان (ما أقسى كان) ، أباً رائعاً، وزوجاً محباً مخلصاً، وإنساناً رحوماً، وقبل ذلك كان ابناً باراً بوالديه.
ذا طبيعة مرحة متزنة في الوقت ذاته.. كيف استطاع أن يولّف ما بين المرح وحس الفكاهة، وما بين الاتزان وجد الشخصية؟! لا يعلم سر هذه الخلطة السحرية إلا هو.
هادئاً كان ومحباً للحديث المتوازن في نفس الوقت، أيضاً لا يعلم سر هذه التوليفة غيره.
ذا خبرات أصيلة ومتعددة في مختلف الأمور، خبيراً في أمور الحياة بكافة أوجهها ونواحيها.. البيئة الصحراوية، والبلدية المدنية، والجمالية العمرانية..
كان مستشاري الأول والأفضل، الأرقى ذوقاً والأرجح رأياً في كافة الأمور حتى الشرائي البحت منها، أتصل به في كل الأوقات لإخباره بأشيائنا الصغيرة أو للحديث إليه فحسب، ويتصل بي دائماً للسؤال أو لمجرد التواصل، وفي الكثير من الأحيان ليخبرني ببث برنامج ما على إحدى القنوات أو إحدى الإذاعات لمتابعته، كان محباً لإشراكي معه في كل الأمور وكذلك كنت.
كان أباً حنوناً ملبياً لاحتياجات أطفاله، يتصلون به ويطلبون ما بدا لهم بشكل دائم ولم يكن يرد لهم طلباً، جعل الله ذلك له شفيعاً ورافعاً ومثقلاً لميزانه.
لديه من علوم القدماء الكثير، رغم رحيله عن 48 عاماً فقط، ولديه من علوم منابت الشجر وأنواع الثمر وطبائع الحيوانات والطبيعة البرية الكثير الكثير الكثير، مما لا يحظى به سواه.
لديه خبرات خاصة بأحوال السحب والغيوم والمطر والنجوم والقمر والسماء.. كان يعرف الوقت من مطالعة النجوم، نجمة الساعة الثامنة والنصف كانت آخر نجمة أشار إليها بمخيمنا قبل أسبوع من رحيله حيث كنا نبيت.
مخيمنا الذي شهد رحيله المفجع.. كم أحب البر.. يرتاده بشكل يومي في مواسم الربيع والشتاء، وفي الصيف حسب الظروف، بمجرد أن يعود بالأطفال من مدارسهم ويتناول وجبة الغداء إلا وييمم شطر البر.. بر الجنوب، البر الذي سقانا عشقه معه، البر الذي جابه من أقصاه إلى أقصاه عن علم ومعرفة ودراية وعرف كل حبة رمل فيه.. وعرفته، وفي النهاية لقي ربه حيث أحب في مكان عشقه الأزلي.
«إن شاء الله تكونين ممن يحبون البر؟».. ما أغرب هذه الجملة ليبدأ بها حديثه الأول معي.. نعم شاء الله أن أحب البر وأعشقه عشقاً مكتسباً منه، وشاء الله ألا أكون معه في البر حين صعدت روحة الطاهرة النقية الجميلة إلى بارئها، اختار لنا القدر أن يكون لدى كل منا عشاء، أحدنا في المنزل والآخر في البر، واختار لنا القدر أن ننشغل، كل بعشائه، وألاّ نكلم بعضنا بعضاً الست ساعات الأخيرة الفاصلة في أقدارنا.
سيظل طريق الخرارة طريق عاشق الصحراء عبدالله بن مبارك الأزلي، الطريق الذي أحببت قيادة سيارتي عليه في السنوات الماضية باتجاه قرص الشمس المنحدر إلى الغسق، حيث لا نهاية لامتداد الطريق نحو الأفق.. هناك حيث يجلس هو بانتظارنا موقداً النار مهيئاً المكان لاستقبالنا، هذا العام زين المخيم بنباتات الزينة المنزلية الخارجية إمعاناً في تجميله، كم هو راق في ذوقه واختياراته.. كان سيد الذوق الجمالي المتميز، على مدى السنوات الجميلة التي جمعتنا لم أختر ثوباً أو إكسسواراً دون استشارته واستطلاع رأيه فيه.
وذات يوم حين سقطت في هوة اكتئاب ولادة سحيق جداً فقدت تزامناً معه صداقة زائلة آلمني زوالها -وما كان ينبغي أن يؤلم-، كان هو في تلك الفترة الحرجة وغيرها.. صداقتي الدائمة أبد الدهر وسندي الروحي وقطعة التركيب المكملة لقطعتي المتحركة والمثبّت لها.
ستظل تذكره النجوم.. وتشع حيث ينام خيوط القمر.. وتصهل مياه البحر بالقرب من مرقده، كان يغلق الماكينة ويطفئ الأنوار حين يكون القمر بدراً فننجذب تلقائياً إليه لافتراش الأرض إلى جواره وتأمل القمر في هدأة الليل معه، كان يعشق الهدوء والتأمل.. تأمل القمر والسماء والبحر أيضاً حين يكون على شاطئه.. بلا محركات كهربائية وبلا ضوضاء.. بشاعرية بحتة.. بهدوء تام.
حين يكون في هذا الوضع أو غيره من أوضاع الهدوء والتأمل كان يقول: ليت الله جعلني شاعراً، بقلبي الكثير من الكلمات والمشاعر ولكن الله لم يجعلني شاعراً.. هكذا كان يردد.
قصيدته الوحيدة اليتيمة كتبها تحت ضوء القمر على شاطئ بحر الوكرة بتاريخ 30-1-2012 وقرأها حالما دخل المنزل بحرفية فائقة وحس شاعري مرهف، أحتفظ بها بخط يده لدي.. بدأها بـ.. : أنت حبيبتي أنت.. أنت حبيبة قلبي أنت..
ما أروع عاطفته وعطاءه، وما أجمل شاعريته وروحه، وما أحسن أخلاقه وطبعه.. يصعب الحديث أكثر من ذلك.. اللهم ارحمه وأكرمه فقد حل بقربك وحبل جوارك، اللهم آنسه في وحدته ووحشته وغربته، اللهم اجعل عن يمينه نوراً، وعن شماله نوراً، ومن تحته نوراً، ومن فوقه نوراً، ومن حوله نوراً، حتى تبعثه آمناً مطمئناً في نور من نورك، اللهم قه عذابك يوم تبعث عبادك، وارزقه أعلى درجات الجنة بلا حساب ولا سابق عذاب، واجمعنا به في جنات الخلد.. آمين يا رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق